فصل: الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة:

والسبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف من السنين قبل الإسلام وكان عمرانها كله بدويا ولم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل أحوالها والدول التي ملكتهم من الإفرنجة والعرب لم يطل أمد ملكهم فيهم حتى ترسخ الحضارة منها فلم تزل عوائد البداوة وشؤونها فكانوا إليها أقرب فلم تكثر مبانيهم وأيضا فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو والصنائع من توابع الحضارة وإنما تتم المباني بها فلا بد من الحذق في تعلمها فلما لم يكن للبربر انتحال لها لم يكن لهم تشوق إلى المباني فضلا عن المدن وأيضا فهم أهل عصبيات وأنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو وإنما يدعو إلى المدن الدعة والسكون ويصير ساكنها عيالا على حاميتها فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها فلا يدعو إلى ذلك إلا الترف والغنى وقليل ما هو في الناس فلذلك كان عمران أفريقية والمغرب كله أو أكثره بدويا أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال وكان عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى وأمصارا ورساتيق من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها لأن العجم ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها ويتباهون في صراحتها والتحامها إلا في الأقل وأكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب لأن لحمة النسب أقرب وأشد فتكون عصبيته كذلك وتنزع بصاحبها إلى سكنى البدو والتجافي عن المصر الذي يذهب بالبسالة ويصيره عيالا على غيره فأفهمه وقسى عليه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.

.الفصل الثامن في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول:

والسبب في ذلك ما ذكرنا مثله في البربر بعينه إذ العرب أيضا أعرق في البدو وأبعد عن الصنائع وأيضا فكانوا أجانب من الممالك التي استولوا عليها قبل الإسلام ولما تملكوها لم ينفسح الأمد حتى تستوفي رسوم الحضارة مع أنهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم وأيضا فكان الدين أول الأمر مانعا من المغالاة أو البنيان والإسراف فيه في غير القصد كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة وقد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل فقال افعلوا ولا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان وألزموا السنة تلزمكم الدولة وعهد إلى الوفد وتقدم إلى الناس أن لا يرفعوا بنيانا فوق القدر قالوا: وما القدر؟ قال: لا يقربكم من السرف ولا يخرجكم عن القصد فلما بعد العهد بالدين والتخرج في أمثال هذه المقاصد وغلبت طبيعة الملك والترف واستقدم العرب أمة الفرس وأخذوا عنهم الصنائع والمباني ودعتهم إليها أحوال الدعة والترف فحينئذ شيدوا المباني والمصانع وكان عهد ذلك قريبا بانقراض الدولة ولم ينفسح الأمد لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلا قليلا وليس كذلك غيرهم من الأمم فالفرس طالت مدتهم آلافا من السنين وكذلك القبط والنبط والروم وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة طالت أمادهم ورسخت الصنائع فيهم فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عددا وأبقى على الأيام أثرا واستبصر في هذا تجده كما قلت والله وارث الأرض ومن عليها.

.الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل:

والسبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصنائع كما قدمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها وله والله أعلم وجه آخر وهو أمس به وذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه في المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنه بالتفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطبيعي والعرب بمعزل عن هذا وإنما يراعون مراعي إبلهم خاصة لا يبالون بالماء طاب أو خبث ولا قل أو كثر ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض ونقلهم الحبوب من البلد البعيد وأما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها والظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات وانظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاها إلا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم كما قدمنا أنه يحتاج إليه في العمران فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجا لها أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن والله يحكم لا معقب لحكمه.